لا تسير الأحداث الرياضية السعودية بسرعة طبيعية، بل أكثر من المعتاد بكثير، وهذا يأتي تعويضاً لسنوات من الجمود في هذا القطاع ، في مملكة جاهزة تماماً لتكون مركز الأحداث، سواء من حيث توفر الزاد البشري أو الاقتصادي أو المساحة الجغرافية.
مؤخراً، كلما تصفحت في تويتر أجد خبراً عن قرار جديد بخصوص بطولة أو فعالية رياضية جديدة في المملكة، والتنظيم مستمر بشكل أسرع مما يمكن استيعابه من قبل البعض ، لكنها السرعة المطلوبة للتحول ولا بديل عنها، الأمر الذي خلق بعض الاعتراضات في شبكات التواصل من غير مستوعبي هذه السرعة وأهدافها الحقيقية.
يناقش كثيرون ما يجري من ناحية رياضية فقط ، هل هذا الحدث مفيد ؟ هل هذه الرياضة مهمة ؟ لماذا الاهتمام بالألعاب الالكترونية ؟ ولماذا هذه الجوائز الضخمة ؟، كل هذه الأسئلة طبيعية، لكنها تأتي قبل اكتمال الصورة لديهم، فالجانب الأخر أهم بكثير، وأحسبه الهدف الحقيقي خلف هذا الحراك الكبير والاستراتيجي.
السعودية مثالاً
في هذا التقرير، استخدمت السعودية لأنها الأكثر نشاطاً مؤخراً في هذا المجال في المنطقة، لكن القارىء سيدرك جيداً بأن الفوائد يمكن جنيها في دول عربية أخرى، لو قاموا بخطوات ملموسة مدروسة متجانسة في هذا السياق.
لذلك لو كنت عزيزي القارىء، من بلد أخر غير السعودية، ما عليك إلا أن تتصور نفس النقاط الرئيسية، وانعكاسها على مجتمعك، في حال تطبيق استراتيجية رياضية متكاملة، متخلصاً من نظرية أن الرياضة للمنافسة فقط.
الاقتصاد الرياضي .. مفهوم عمره 30 سنة
منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، رصد الباحثون والمختصون أثر الرياضة على الاقتصاد، فمع ظاهرة مايكل جوردان وتأثيره الهائل على مستقبل شركات كبرى، وبدء العلامات التجارية بخطوات احتكارية تجاه الأحداث والأفراد، بات واضحاً أن لهذه الرياضة أثر مهم اقتصادياً وليس تنافسياً فقط.
في تقرير نشرته صحيفة اندبندنت عام 2015، قبيل كأس العالم للرجبي، رصدت من خلاله تأثير الفعاليات الرياضية المختلفة على مناطق بريطانيا المختلفة، لتصل إلى استنتاج على ألسنة خبراء قابلتهم “الفعاليات الرياضية، ذات الطابع المحلي أو الدولي، تأتي بنتائج واضحة على الاقتصاد من حيث تنشيط الاستثمارات العقارية والترفيهية حتى على مستوى أندية اللياقة وبيع المعدات الرياضية، وكذلك على مستوى السياحة الخارجية أو الداخلية”.
وأضافت ما معناه “رغم أنه لا يمكن القياس بشكل دقيق حتى الآن حجم الفائدة الاقتصادية لكنها موجودة وملموسة ومتفق عليها حسب كافة الخبراء”.
وبات الآن في أوروبا وأمريكا، نقاش تأثير أي فعالية أو منشأة رياضية على الاقتصاد المحلية، أمراً طبيعياً، ليفهم سكان المنطقة الفائدة العائدة عليهم لاحقاً، ويوفروا الدعم والتسهيلات بالتالي لنجاح هذه الخطوات.
نبدأ من أبوظبي ..إلى انجلترا
حسب دراسة التحليلية لشركة (SMG)المختصة بالأبحاث والبيانات، فإن قيمة العوائد الاقتصادية لإمارة أبوظبي خلال عام 2017، من استضافة الفعاليات الرياضة، تقدر بقيمة 540 مليون دولار.
وهناك قيمة أخرى رصدتها الشركة متمثلة بالقيمة الإعلامية، حيث أن إسم عاصمة الإمارات ومقاطع الفيديو الخاصة بها أو بأحداثها على الإنترنت والمحطات التلفزيونية، تقدر قيمتها الإعلامية الإيجابية بما يزيد عن 170 مليون دولار.
وفي دراسة تعود إلى عام 2012، كانت الفعاليات الرياضية في انجلترا تساهم بـ 2% من اقتصاد البلاد، أي ما يقارب 21 مليار جنيه استرليني آنذاك.
وحسب ما نشره موقع بليتشر ريبورت ، فإن ماراثون نيويورك الكبير، يساهم بكافة تفاصيله وتشعباته بما يقارب 340 مليون دولار إلى اقتصاد الولاية!
أرقام كبيرة، لا تشعر بها، لكنها تجعلك تفهم، لماذا تقوم أي دولة تحاول النهوض باقتصادها، بالاهتمام بالرياضة وأحداثها، جنباً إلى جنب باهتمامها بأمور مختلفة مثل الطرق والصناعة والزراعة والتكنولوجيا.
فرص العمل وستوك سيتي!
قبل نصف عام تقريباً، أعلن نادي ستوك سيتي متفاخراً تأثيره الاقتصادي على المدينة ، قائلاً إنه يخلق ” 2200″ وظيفة ، وهو نادي لا يعتبر كبير رغم عراقته، مما يجعلنا نتخيل تأثير الأندية الأكبر على خلق فرص العمل.
وبشكل عام فهناك ما يقارب 450 ألف وظيفة في انجلترا، معتمدة بشكل مباشر أو شبه مباشر على الفعاليات الرياضية المختلفة.
قد يسأل أحدهم “ما فائدة فرص العمل للاقتصاد؟ ، ولماذا نسمع هذه الكلمة كثيراً في الأخبار الاقتصادية ؟”، الأمر بسيط لكن ربما يستحق التوضيح السريع.
خلق فرصة عمل تعني الحصول على راتب من قبل شخص إضافي، هذا الراتب سيتم إعادة إنفاقه في السكن والمواصلات والأكل وأمور أخرى، أي أنه يحرك قطاعات مختلفة أخرى، وحسب كل النظريات فإن عدد فرص العمل المخلوقة من أهم المؤثرات في اقتصاد الدول.
الحراك الرياضي الحالي في السعودية، سيخلق فرص عمل إضافية بالتأكيد، وهذا يعود بالنفع الاقتصادي ليس على الأفراد فقط، بل على المجتمع بشكل عام.
القيمة الثقافية للأطفال
قد يكون أمثالي من الكبار أقل تأثراً بالأنشطة الرياضية من حولنا، كثيرون منا سيشاهدونها من التلفاز، أو يذهبون هناك لرؤية المشاركين ونحن نتناول طعامنا، لكن الأمر يختلف عند الأطفال.
كثرة الفعاليات الرياضية، تشجع الأطفال على الانخراط في الرياضة، وتطرد الكسل من حياتهم، وهو ما يعود بالنفع عليهم صحياً، وعلى البلاد اقتصادياً، بل إن مثل هذه الأجواء ستؤدي إلى خلق أبطال في رياضات مختلفة أيضاً.
لوحظ مثلاً ارتفاع عدد الأطفال المهتمين بلعب كرة القدم بعد استضافة امريكا لكأس العالم، وهو نفس الأمر الذي حدث مع الصين عند استضافتها كأس أسيا 2004.
الإيجابية والشعور الوطني .. ماراثون الرياض مثالاً
في كل مدينة ذهبت إليها، وفيها فعاليات رياضية، كنت أشعر بالأجواء الإيجابية لأهلها، بالسعادة على وجوه الأطفال، ورغبة الشباب بالتفاعل والمشاركة.
وجود حدث في منطقة ما، يجعل أهلها متحدون من دون أن يشعرون، فالرياضة جسر، فعند وجود أي فعالية سيكون الاهتمام موحد، يصاحبه عادة شعور إيجابي لدى فئة كثيرة، وهذه الحالة من تحسين المزاج العام تستحق التعب من أجل الفعاليات والأحداث الرياضية.
في ماراثون الرياض الذي أقيم قبل أيام، ظهر هذا التأثير بوضوح، فرؤية خلف البلوي ينهي سباق 21 كيلو مترا، وعمره 79 عاماً، جعل الالاف يتفاعلون معه في شبكات التواصل، ويبدون احترامهم وفرحهم بإنجازه، وجعل الإيجابية من حوله واضحة.
كما أن رؤية ذوي الاحتياجات الخاصة يشاركون فيه، إشارة مهمة بضرورة دمج جميع فئات المجتمع في مثل هذه الأحداث، وفي ذلك تأثير واضح، وخلق أجواء من الألفة بين الجميع.
لاحقاً .. التحول : القارية ثم العالمية ، والمبادرات الخاصة
لجعل هذا الحراك يحقق أكبر فوائد ممكنة، أعتقد بل أجزم أن الخطوة التالية منه هو التحول إلى القارية والعالمية كلما أمكن.
رأينا بطولة العالم للشطرنج قبل فترة، وسوف نرى قريباً المزيد من البطولات، بعدما تمت إزالة العوائق القديمة أمام الاستضافات الكبيرة.
مثل هذا التحول، سيجلب المزيد من نزلاء الفنادق الذين ينفقون على المواصلات والأكل ويشترون الهدايا والتذكارات، والمزيد من الرعاة الأجانب، وكذلك يجلب الاحتكاك والخبرة والمعرفة.
ومن الملاحظ أن الحراك الرياضي السعودي القوي الآن، يتم قيادته حكومياً عبر الهيئة العامة للرياضة، لكن هذه الحالة ليست أبدية، بل هي بمثابة الدفعة القوية لتحريك المياه الراكدة، لإلهام الآخرين.
ستدرك الشركات، والمستثمرون قريباً بأن هناك سوقاً مثالية لخلق فعاليات ناجحة على كافة المستويات، وسوف يبادرون بأفكار جديدة، أو ينسخون أفكاراً موجودة، وينقلونها لمدن ومناطق مختلفة في البلاد.
حالما تتحقق مرحلة التحول، سيكون وقتها الكلام بالأرقام بعيداً عن النتائج، وسوف يشعر الجميع بأهمية هذا الحراك للبلاد.
الخلاصة .. الصورة الكبيرة في السعودية
لا يمكن رؤية الرياضة بشكل مستقل حالياً في المملكة، فالأخبار القادمة منه هناك، والإعلانات الرسمية توضح أن النظرة إلى واجب المؤسسات قد تغيرت، بضرورة تعاضدها جميعاً لتقليل الاعتماد عل النفط بشكل مستمر.
ومن ضمن تغيير هذه الصورة، هناك قرار واضح بأن الرياضة لم تعد مجرد هواية ومساحة ترفيه فقط، بل جزءاً من الاستراتيجية الكاملة، وبالتالي عليها أن تؤدي أدوارها المطلوبة؛ الاجتماعية والاقتصادية ، من دون تنازل عن الهدف التقليدي الرياضي.
التغييرات تحدث في كل المجالات هناك، تنسحب على الرياضة أيضاً، في شكل يمكن رؤيته عند تجميع كافة القطع بالشكل الصحيح، لنرى الصورة الكاملة، وندرك جيداً أن هذا الحراك الرياضي النشيط في السعودية، له أهداف أبعد من مجرد فوز وخسارة.
فيديو .. لماذا اشترت STC حقوق الدوري السعودي ؟